كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَالْحَقُّ أَنَّ ظَوَاهِرَ الْقُرْآنِ الْوَارِدَةَ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَعَلَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالَ تَعَالَى فِي بَنِي آدَمَ: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [17: 70] بَلْ لَقَالَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلَقْنَا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ خَوَاصَّ الْمَلَائِكَةِ- كَالْمُقَرَّبِينَ- أَفْضَلُ مِنْ خَوَاصِّ الْبَشَرِ كَالرُّسُلِ، وَلَا يَتَحَتَّمُ أَنْ يَقْتَضِيَ كَوْنَ عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلَ مِنْ خَوَاصِّ الْبَشَرِ كَالرُّسُلِ، وَقَدْ يُنَافِيهِ كَوْنُ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ مُسَخَّرِينَ لِمَصَالِحِ الْبَشَرِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ قَاطِعٌ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلُوهُ مَحَلَّ الْخِلَافِ كَمَا قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا هُنَا. وَإِنَّ النَّفْيَ هُنَا وَارِدٌ فِي بَيَانِ تَحْقِيقِ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَوَظِيفَةِ الرَّسُولِ وَكَوْنِهَا لَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ، أَوْ أَنْ يَعْلَمَ بِكَسْبِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَلَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؛ يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقْدِرُونَ، وَيَعْلَمُ مَا يَعْلَمُونَ. وَالْأَشَاعِرَةُ لَا يُنْكِرُونَ تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِنَّمَا يُفَضِّلُونَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ لِمَا احْتَمَلُوهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَوَّضَ هَذَا الْأَمْرَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَا يُجْعَلَ مَحَلَّ الْقِيلِ وَالْقَالِ؛ إِذْ لَا فَائِدَةَ لَنَا فِي ذَلِكَ، وَلَا عِلْمَ لَنَا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى أَعْمَالِ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْجَزَاءِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
وَاسْتَنْبَطُوا مِنَ الْآيَةِ أَيْضًا أَصْلَيْنِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ، قَالَ الرَّازِيُّ فِي بَيَانِهِمَا: قَوْلُهُ: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى حُكْمَيْنِ:
الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ يَجْتَهِدُ، بَلْ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ صَادِرَةٌ عَنِ الْوَحْيِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [53: 3، 4].
الْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ قَالُوا: ثَبَتَ بِهَذَا النَّصِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَعْمَلُ إِلَّا بِالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَلَّا يَجُوزَ لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّبِعُوهُ} [6: 153- 155] وَذَلِكَ يَنْفِي جَوَازَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِغَيْرِ الْوَحْيِ يَجْرِي مَجْرَى عَمَلِ الْأَعْمَى، وَالْعَمَلَ بِالْوَحْيِ يَجْرِي مَجْرَى عَمَلِ الْبَصِيرِ، ثُمَّ قَالَ: {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ، وَأَلَّا يَكُونَ غَافِلًا عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقَرَّ الرَّازِيُّ هُنَا هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَأَيَّدَهُمَا أَشَدَّ التَّأْيِيدِ، وَلَمْ يُحَامِ عَنِ الْقِيَاسِ وَهُوَ الرُّكْنُ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ جُلَّ فِقْهِ أَصْحَابِهِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ، حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ غُلَاةِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَقَدْ حَرَّرَنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنَ التَّفْسِيرِ (السَّابِعِ) عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [5: 101] بَعْدَ كَلَامٍ فِي ذَلِكَ فِي الْجُزْءِ السَّادِسِ عِنْدَ تَفْسِيرِ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [5: 3] وَنَقُولُ هُنَا رَدًّا عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ: إِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَجْتَهِدُ فِي الْأَحْكَامِ، وَأَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِالنَّصِّ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، نَزَلَتْ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ لَا حُكُومَةَ لِلْإِسْلَامِ وَلَا أَحْكَامَ، وَحَيْثُ الدَّعْوَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ قَاصِرَةٌ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ وَكُلِّيَّاتِهِ وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالرِّسَالَةُ وَالْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْفَضَائِلِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالتَّنْفِيرُ عَنِ الرَّذَائِلِ وَعَمَلِ السُّوءِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَيَقُولُ مُثْبِتُوا الِاجْتِهَادِ لَهُ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَذِنَ لَهُ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ} [4: 105] أَيْ بِمَا أَرَاكَهُ فِيهِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً وَاجْتِهَادًا، وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ الْمَانِعِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا أَيْضًا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ نَصًّا فِي الْمَنْعِ وَلَا الْإِثْبَاتِ [رَاجِعْ ص 322 ج 5 ط الْهَيْئَةِ] وَبَيَّنَاهُ هُنَالِكَ أَنَّ آيَةَ النَّجْمِ خَاصَّةٌ بِالْقُرْآنِ، إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْطِقْ إِلَّا بِالْوَحْيِ، بَلْ ثَبَتَ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْقَطِعُ عَنْهُ أَيَّامًا كَثِيرَةً، وَقَدْ حَكَمَ صلى الله عليه وسلم فِي أَسْرَى بَدْرٍ بِاجْتِهَادِهِ، وَعَاتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُقِرُّهُ عَلَيْهِ. وَالْقَائِلُونَ بِالْمَنْعِ لَا يَحْصُرُونَ الْوَحْيَ فِي الْقُرْآنِ. وَإِذَا كَانَ حُكْمُهُ صلى الله عليه وسلم بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنَ الْوَحْيِ مَبْنِيًّا عَلَى إِذْنِ اللهِ تَعَالَى لَهُ بِالِاجْتِهَادِ- يَكُونُ مُتَّبِعًا فِيهِ لِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْقِيَاسِ: إِذَا ثَبَتَ الْإِذْنُ بِهِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ الْحُكْمُ بِهِ اتِّبَاعًا لِلْوَحْيِ، وَثُبُوتُهُ فِي السُّنَّةِ يَرْجِعُ إِلَى الْقُرْآنِ، إِذْ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَشَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَنْصُوصَ عَلَى عِلَّتِهِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ وَمَا قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا وَجْهَ لِلْخِلَافِ فِيهِ- وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يُسَمِّيهِ قِيَاسًا- وَأَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ وَنَحْوَهُ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الْبَعِيدَةِ عَنِ النُّصُوصِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَرَاجِعْ تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى وَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ.
{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَذَا الْإِنْذَارِ الْخَاصِّ بَعْدَ أَمْرِهِ بِتَبْلِيغِ النَّاسِ حَقِيقَةَ رِسَالَتِهِ، وَكَوْنِهَا لَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ وَالْعِلْمِ مَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَجْدَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ بِفَهْمِ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ وَالِانْتِفَاعِ بِنَذْرِ الرَّسُولِ، فَهِيَ كَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} [35: 18] وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [36: 11] أَيْ: وَأَنْذِرْ بِمَا يُوحَى إِلَيْكَ جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَ، الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ، أَيْ: يَخَافُونَ شِدَّةَ وَطْأَةِ الْحَشْرِ وَالْقُدُومَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي يَوْمٍ {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [2: 254] {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرَ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [82: 19] وَكُلٌّ يَأْتِيهِ فِيهِ فَرْدًا لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ يَنْصُرُهُ، وَلَا شَفِيعٌ يَدْفَعُ عَنْهُ، إِذْ أَمْرُ النَّجَاةِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَرْضَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يُرْجَى أَنْ يَتَّقُوا اللهَ تَعَالَى اهْتِدَاءً بِإِنْذَارِكَ، وَيَتَحَرَّوْا مَا يُؤَدِّي إِلَى مَرْضَاتِهِ، لَا يَصُدُّهُمْ عَنْ تَقْوَاهُ الِاتِّكَالُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَلَا الِاعْتِمَادُ عَلَى الشُّفَعَاءِ؛ لِصِحَّةِ تَوْحِيدِهِمْ، وَعِلْمِهِمْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ جَمِيعًا {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [1: 3] {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [21: 28] وَأَنَّ نَجَاتَهُمْ وَسَعَادَتَهُمْ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَتَزْكِيَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ لَا بِانْتِفَاعِهِمْ بِصَلَاحِ غَيْرِهِمْ، أَوِ اعْتِمَادِهِمْ عَلَى شَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ لَهُمْ، كَالْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ جَهِلُوا أَنَّ مَدَارَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى تَزَكِّي النَّفْسِ وَطِهَارَتِهَا بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، وَمَا يَلْزَمُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا رِضَاءُ اللهِ عَنْهَا لَا عَلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنِ النَّفْسِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِيهَا.
هَذَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مُؤَيَّدًا بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ أُخْرَى، بَلْ بِجُمْلَةِ الدِّينِ وَكُلِّيَّاتِهِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَبِنَحْوِهِ فَسَّرَهَا الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَأْثُورِ، وَهَاكَ نَصُّ عِبَارَتِهِ: أَيْ: وَأَنْذِرْ بِالْقُرْآنِ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ، {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {لَيْسَ لَهُمْ} أَيْ يَوْمَئِذٍ {مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} أَيْ لَا قَرِيبَ لَهُمْ وَلَا شَفِيعَ فِيهِمْ مِنْ عَذَابِهِ إِنْ أَرَادَهُ بِهِمْ، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أَيْ أَنْذِرْ هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي لَا حَاكِمَ فِيهِ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَيَعْمَلُونَ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَمَلًا يُنْجِيهِمُ اللهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَذَابِهِ، وَيُضَاعِفُ لَهُمْ بِهِ الْجَزِيلَ مِنْ ثَوَابِهِ. اهـ.
فَالْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ فِي إِنْذَارِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَخَافُونَ اللهَ وَيَرْجُونَهُ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ هِيَ وَمَا بَعْدَهَا فِي صُهَيْبٍ وَعَمَّارٍ وَبِلَالٍ وَخَبَّابٍ وَنَحْوِهِمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَتْ نَافِيَةً لِلشَّفَاعَةِ عَنْهُمْ لَجَأَ بَعْضُ مُفَسِّرِي الْخَلَفِ إِلَى تَأْوِيلِهَا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ لِأَنَّ شَفَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِذْنِ اللهِ؛ لِقَوْلِهِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [2: 255] فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الشَّفَاعَةُ بِإِذْنِ اللهِ كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى قَالَهُ الرَّازِيُّ فِي وَجْهِ نُزُولِ الْآيَةِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَذَكَرَ فِيهَا وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا عَامَّةٌ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَفَّارِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَالْمُرَادُ بِهِ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَمَاحَوْلَهَا، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُمْ بِدَلَائِلِ الْعُمُومِ، وَكَانَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ الْحَشْرَ وَيَثْبِتُونَ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللهِ لِآلِهَتِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا لَهُمُ التَّمَاثِيلَ وَالْأَصْنَامَ، كَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ فَقَالَ بِالْبَعْثِ، وَلَا أَذْكُرُ الْآنَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَكَّةَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ، وَلَا يَعْقِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي إِنْذَارِ هَذَا الشَّاذِّ النَّادِرِ.
وَلَكِنَّ أَبَا السُّعُودِ تَنَطَّعَ فِي التَّأْوِيلِ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ هُنَا مُوَجَّهٌ إِلَى مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُمُ التَّأَثُّرُ فِي الْجُمْلَةِ وَهُمُ الْمُجَوِّزُونَ مِنْهُمْ لِلْحَشْرِ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي سَوَاءٌ كَانُوا جَازِمِينَ بِأَصْلِهِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ وَبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعْتَرِفِينَ بِالْبَعْثِ الْمُتَرَدِّدِينَ فِي شَفَاعَةِ آبَائِهِمُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَالْأَوَّلِينَ، أَوْ فِي شَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ كَالْآخَرِينَ، أَوْ مُتَرَدِّدِينَ فِيهِمَا مَعًا كَبَعْضِ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا بِحَدِيثِ الْبَعْثِ يَخَافُونَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا، وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِلْحَشْرِ رَأْسًا، وَالْقَائِلُونَ بِهِ الْقَاطِعُونَ بِشَفَاعَةِ آبَائِهِمْ أَوْ بِشَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ، فَهُمْ خَارِجُونَ مِمَّنْ أُمِرَ بِإِنْذَارِهِمْ، وَقَدْ قِيلَ: هُمُ الْمُفَرِّطُونَ فِي الْأَعْمَالِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يُسَاعِدُهُ سِبَاقُ النَّظْمِ الْكَرِيمِ وَلَا سِيَاقُهُ، بَلْ فِيهِ مَا يَقْضِي بِاسْتِحَالَةِ صِحَّتِهِ، كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ- هَذِهِ عِبَارَتُهُ- وَقَدْ جَعَلَ جُمْلَةَ {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} حَالًا مِنْ ضَمِيرِ {يُحْشَرُوا} قَالَ: وَالْمَعْنَى: أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا غَيْرَ مَنْصُورِينَ مِنْ جِهَةِ أَنْصَارِهِمْ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَمِنْ هَذَا اتَّضَحَ أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْخَائِفِينَ الْمُفْرِّطِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ إِذْ لَيْسَ لَهُمْ وَلِيٌّ سِوَاهُ تَعَالَى يَخَافُونَ الْحَشْرَ بِدُونِ نُصْرَتِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَخَافُونَهُ الْحَشْرَ بِدُونِ نُصْرَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ انْتَهَى. وَقَدْ لَخَّصَ كَلَامَهُ السَّيِّدُ الألوسي فِي رُوحِ الْمَعَانِي وَقَالَ: هُوَ تَحْقِيقٌ لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَيَصْغُرُ لَدَيْهِ مَا فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ، وَلَعَلَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ رضي الله عنهما لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمَا فَتَدَبَّرْ انْتَهَى. وَمُرَادُهُ بِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَبْرِ وَالْحَسَنِ هُوَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ.
وَنَقُولُ: قَدْ تَدَبَّرْنَا الْكَلَامَ فَوَجَدْنَا أَنَّ هَذَا الَّذِي سَمَّيْتَهُ تَحْقِيقًا تَنَطُّعٌ وَتَكَلُّفٌ بَعِيدٌ عَنْ سِبَاقِ الْآيَةِ وَسِيَاقِهَا، وَلَوْلَا إِعْجَابُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ وَاعْتِمَادُكَ عَلَيْهِ فِي حَلِّ تَفْسِيرِكَ لَمَا خَفِيَ عَنْ ذِهْنِكَ الْمُنِيرِ تَكَلُّفُهُ هَذَا الَّذِي خَالَفَ فِيهِ الْمَأْثُورَ الْمُتَبَادِرَ مِنَ النَّظْمِ الْكَرِيمِ الْمُوَافِقِ لِلْحَالِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ السُّورَةُ، فَجَعَلَ الْإِنْذَارَ مُوَجَّهًا إِلَى مَنْ لَا يَكَادُ يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مَكَّةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَشُذَّاذِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا حَاجَةَ فِي حَالِ تَوْجِيهِ الْإِنْذَارِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَى تَخْصِيصِهِ بِالْمُفَرِّطِينَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ مُفَرِّطٌ وَلَا مُقَصِّرٌ، بَلْ كُلُّهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ مُشَمِّرٌ، فَهُمُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ، وَأَثْبَتَ فِي كِتَابِهِ رِضَاءَهُ عَنْهُمْ. وَالْمَأْثُورُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُمِرَ صلى الله عليه وسلم بِإِنْذَارِهِمْ هُمُ الَّذِينَ نَهَى عَنْ طَرْدِهِمْ بِقَوْلِهِ عز وجل: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} رَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ صُهَيْبٌ وَعَمَّارٌ وَخَبَّابٌ وَنَحْوُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَرَضِيتَ بِهَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِكَ؟ أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا؟ أَنْحَنُ نَكُونُ تَبَعًا لِهَؤُلَاءِ؟ اطْرُدْهُمْ عَنْكَ، فَلَعَلَّكَ إِنْ طَرَدْتَهُمْ أَنْ نَتَّبِعَكَ، فَأُنْزِلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وَقِيلَ: إِلَى قَوْلِهِ: {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [55] وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَشَى عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَبْيَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَقَرَظَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ فِي أَشْرَافِ الْكُفَّارِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مُنَافٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالُوا لَهُ: لَوْ أَنَّ ابْنَ أَخِيكَ طَرَدَ عَنَّا هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدَ، فَإِنَّهُمْ عَبِيدُنَا وَعُسَفَاؤُنَا- كَانَ لَهُ أُعْظَمَ فِي صُدُورِنَا، وَأَطْوَعَ لَهُ عِنْدَنَا، وَأَدْنَى لِاتِّبَاعِنَا إِيَّاهُ وَتَصْدِيقِهِ. فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:
لَوْ فَعَلْتَ يَا رَسُولَ اللهِ حَتَّى نَنْظُرَ مَا يُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ وَمَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمِ بِالشَّاكِرِينَ} قَالَ: وَكَانُوا بِلَالًا، وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَصُبَيْحًا مَوْلَى أُسَيْدٍ، وَمِنَ الْحُلَفَاءِ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحَنْظَلِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو ذُو الشِّمَالَيْنِ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ، وَأَشْبَاهُهُمْ، وَنَزَلَتْ فِي أَئِمَّةِ الْكُفْرِ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْمَوَالِي وَالْحُلَفَاءِ {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا} الْآيَةَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَاعْتَذَرَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} [54] الْآيَةَ. هَذَا أَقْوَى مَا أَوْرَدَ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَاخْتَصَرَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي لُبَابِ النُّقُولِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا نُزُولُ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَكَوْنُ هَذِهِ الْآيَاتِ لَيْسَتْ مِمَّا اسْتَثْنَاهُ بَعْضُهُمْ وَبَيَّنَاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ إِنْ كَذَا نَزَلَ فِي كَذَا يُصَدَّقُ بِنُزُولِهِ وَحْدَهُ وَبِنُزُولِهِ فِي ضِمْنِ سُورَةٍ كَامِلَةٍ أَوْ سِيَاقٍ مِنْ سُورَةٍ، لَكِنَّ ظَاهِرَ مَا زَادَهُ عِكْرِمَةُ مِنْ نُزُولِ {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} فِي عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ بَعْدَ اعْتِذَارِهِ، وَأَنَّ اعْتِذَارَهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ مَا قَبْلَهَا. وَيُعَارِضُ هَذَا الظَّاهِرَ مَا وَرَدَ فِي نُزُولِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَكَوْنَ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَتْ مِمَّا اسْتُثْنِيَ، وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ أَيْضًا وَسَيَأْتِي قَرِيبًا، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ: إِمَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَإِمَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْعِبَارَةِ غَيْرُ مُرَادٍ، وَإِنَّمَا لَمْ نَرُدَّ الرِّوَايَةَ مِنْ أَصْلِهَا مَعَ أَنَّ فِي سَنَدِهَا مِنَ الْمَقَالِ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّ نُزُولَ الْآيَاتِ الْأُولَى فِي ضُعَفَاءِ الصَّحَابَةِ هُوَ الْوَاقِعُ الَّذِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ، وَالرِّوَايَاتُ فِيهِ مَبْنِيَّةٌ لِلْوَاقِعِ، يُؤَيِّدُ فِيهِ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَلَا يَضُرُّ فِي مَثَلِهِ ضَعْفُ الرَّاوِي بِبِدْعَةٍ أَوْ بِتَدْلِيسٍ أَوْ تَحْدِيثٍ بَعْدَ اخْتِلَاطٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي فِي رِجَالِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
أَمَّا كَوْنُ هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فَمَعْلُومٌ مِنَ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَمِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ الْمُبَيَّنَةِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَهُوَ أَنْ أَوَّلَ أَتْبَاعِ خَاتَمِ الرُّسُلِ صلى الله عليه وسلم كَأَتْبَاعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ إِخْوَانِهِ الرُّسُلِ- صَلَّى الله عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ- أَكْثَرُهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ الْفُقَرَاءِ، وَأَنَّ أَعْدَاءَهُ كَأَعْدَائِهِمْ هُمُ الْمُتْرَفُونَ مِنَ الْأَكَابِرِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءَ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنِ الْإِيمَانِ كَانُوا يَحْتَقِرُونَ السَّابِقَيْنِ إِلَى الْإِيمَانِ وَيَذُمُّونَهُمْ وَيَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ مَعْذُورِينَ أَوْ مُحِقِّينَ بِعَدَمِ رِضَائِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِمُسَاوَاتِهِمْ، وَتَارَةً يَقْتَرِحُونَ عَلَى الرُّسُلِ طَرْدَهُمْ وَإِبْعَادَهُمْ، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [34: 34، 35] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ حَاكِيًا قَوْلَ الْمَلَأِ، أَيِ الْأَشْرَافِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [11: 27] وَقَوْلُهُ لَهُمْ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَفَلَا تَذَكُّرُونَ} [11: 29، 30] وَقَدْ حَكَى الله عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [46: 11] وَقَالَ فِي شَأْنِهِمْ مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [19: 73، 74].